يطل علينا موروثنا الاجتماعي بجملتنا هذه، والتي تحمل في طياتها قصة أنتجتها صحراء بلادنا المترامية الأطراف وباديتها المليئة بالحكمة والمعرفة (البَكْره ما يت والعِيال تِذابْحُوا على عِيَالها) ودعوني أترجمها لكم قبل أن نغوص بين أسطر تلك الجملة وما تحمل من إرث اجتماعي عريق (البَكْره) هي أنثى الجمل الصغيرة (ما يت) لم تُمتلك بعد أي لم تصل (العِيال ) أبناء صاحبة القصة (تِذابْحُوا) تقاتلوا وقتل كلٌ غريمه (عِيَالها) أبناءها والقصد هنا أبناء البكره بعد أن تنجبهم.

وتقول القصة

يحكى أن بدوية كانت تعيش مع ولديها الصغيرين، وبينما كانت تغزل ذات يوم، أخبرت ولديها بأنها سوف تدخر مالاً من قيمة بيع الصوف لتشتري به (بَكْرة حواره) أنثى الجمل الصغيرة وأنها سوف تعمل على عرضها بعد بلوغها سن التزاوج لأحد مشاهير الإبل، وعندما تلد الناقة سوف تعهد لأحد ابنيها اللذين كانا جالسين معها لتأديبها وترويضها .

كما يفعل دائماً أصحاب الإبل بإبلهم لأن الجمال إذا لم يتم تعليمها على (الخطام) أي الحبل الذي يربط في رأس الناقة للتحكم بها و(الشداد) والذي يوضع على ظهر الإبل لامتطائها لا يستطيعون الاستفادة منها بتاتاً، لذلك يقوم أهل البادية بتأديب جمالهم منذ الولادة وهي عملية تعتبر احترافية ويتميز فيها البدو من واحد الى آخر.

وما إن أنهت المرأة حديثها حتى نشأ صراع بين ولديها، سببه أن كل واحد يرغب بأن يكون هو المسؤول عن تأديبها، فهذا يقول أنا وذاك يقول أنا، ما أدى في نهاية الأمر إلى موتهما، فأصبحت هذه القصة مضرباً للمثل والحكمة.

ولو تأملنا هذه القصة فهي تظهر عمق الفطنة والرؤية لدى أجدادنا، كما أنها

تمثل انعكاساً للموروث الثقافي، ولو تفطنا لحكاية هذه البدوية فهي تحتاج إلى سبع أو ثماني سنوات لتجمع النقود من بيع الصوف حتى تشتري (البكرة)، وسوف تحتاج إلى ثلاث سنوات حتى تقوم بترويض الناقة وإعدادها للتزاوج، وتحتاج إلى عام كامل على أقل تقدير إذا لم يكن عامين أو ثلاثة حتى تلد، إضافة إلى ستة أشهر لبدء عملية التأديب الفعلية، أي أنها تحتاج ما بين ثلاث عشرة سنة وسبع عشرة سنة حتى تحقق ذلك الحلم، وبالتالي تكون هذه القصة من أروع القصص التي أنتجتها صحراء بلادنا الغالية.

والتي يفخر بها تراثنا الشعبي العريق وتعتبر نموذجاً واقعياً للحكمة، وتؤكد أن الكلام وإن كان بسيطاً أو عبارة عن أحلام شخصية قد يكون طريقاً قصيراً لزهق الأرواح وإشعال الفتن والمصائب والعكس، وبالتالي تكمن قصتنا وحكمتنا بأنه يجب على الإنسان ألا يستبق الأحداث ويتأنى ويصبر حتى يصل الى مبتغاه، ولا يبني آماله على الأحلام والمستقبل المبهم.

 

وللحديث صلة….